منذ أن وطأت أقدام مليشيا الحوثي في المناطق التي تسيطر عليها، عمدت وبشكل منظم في تدمير العملية التعليمية في المحافظات الواقعة تحت سيطرتها انطلاقاً من إدراكها أن وجود شباب متعلم يصعب عليها نشر أفكارها الضالة والمنحرفة المستوردة.
وخطت المليشيا بشكل مبكر في تدمير التعليم، من خلال تفجيرها للمدارس، مروراً بتطييف المناهج والدفع بالطلاب إلى الجبهات، وصولاً إلى نشر ظاهرة الفساد والغش بشكلٍ كبير في الامتحانات، خصوصاً في أهم الامتحانات الرئيسية في البلاد كالشهادتين "الأساسية والثانوية"، إضافة إلى منح المقاتلين في صفوفها درجات عالية تمكنهم من دخول الجامعات على حساب غيرهم.
تمييز في "الغش"
التحق (إ.ق) بكلية الطب في جامعة صنعاء بعد حصوله على معدل عالٍ في الثانوية العامة، على الرغم من تدني مستواه التعليمي وإهماله حتى في الثانوية العامة، لكن ما ساعده في ذلك، أنه يعود لأسرة هاشمية لتكون الشهادة الأهم لتحقيق هدفه بالحصول على مقعد طب على حساب الآلاف ممن حاولوا الالتحاق بالكلية.
ليس (إ.ق) هو الوحيد من الأسر الهاشمية الذي يحوز على الاهتمام وتعبيد الطرق أمامه، فغيره المئات من أقرانه من الحوثيين، الذين يدفعون مئات الأسر الفقيرة مع بداية كل موسم اختبارات، للهجرة من عواصم المحافظات التي تسيطر عليها مليشيا الحوثي، إلى القرى والمناطق النائية، لعدم قدرتهم على الحصول على درجات عالية.
يرصد هذا التقرير بعض آراء أسر حُرم أبنائها من التعليم، حيث يقولون بأن "الحوثيين يمنحون أتباعهم والمقربين منهم فرصاً أكبر للغش في الاختبارات للحصول على مقاعدهم في الجامعات، بينما نحن لا نحصل على شيء".
"عبدالله ناصر" وحفيده (عمر) اسمان مستعاران اختارهما محرر التقرير بديلاً لاسمهما الحقيقي، يشرحان رحلتهم المؤلمة من المدينة إلى الريف، بحثاً عن مكان تتوافر فيه فرصاً أفضل لمساعدة الطلاب في اختبارات المرحلة الثانوية للحصول على الغش. يقول: "حتى الغش المتفشي في المدارس ليس متاحاً للجميع في بعض مراكز الاختبارات بالمدن الرئيسة، حيث يقتصر على طلاب مدارس أهلية يغلب عليهم القرب من الجماعة الحوثية، أو طلاب مدارس حكومية تقوم المليشيا على مساعدتهم في النجاح، أو دفع مبالغ مالية كبيرة للمراقبين ومشرفي الامتحانات في مراكزهم".
يؤكد د. محمد صالح محسن، مدير مكتب التربية بمحافظة الجوف "وجود تمييز بين الطلاب بحجج عنصرية أو طائفية أو مذهبية أو مجاهد ضد العدوان كما يقولون"، مضيفاً: "هؤلاء يسجلون ليلة الاختبار وتصدر لهم أرقام جلوس بل ويمتحن آخرون بدلاً عنهم".
وفي تعداده لمظاهر الاختلالات في مراكز امتحانات خاضعة للمليشيات الحوثية في مناطق سيطرتها أطراف محافظتي لحج وتعز، يقول قيادي تربوي من أبناء المنطقة بأنه "يتم إعفاء طلاب الثانوية في المناطق التي ما يزال الحوثي محتلاً لها، مادام هذا الطالب يقاتل معهم، وإعطائه معدلاً يمكنه من أخذ رغباته".
إلا أن هذا الطالب الذي يتم إغراءه بالحصول على معدل مقابل الذهاب للجبهات، "في بعض الأحيان- يذهب لكنه لا يعود سوى صورة ورقية على نعش جثمانه"، حسب ما صرحه القيادي التربوي.
مقايضة بالـ"الغش"!!
ولعل المقايضة بين الشهادة والنتيجة بدرجات أعلى، مقابل حمل السلاح في صفوف الحوثيين، أحد أبرز ما يحدث في مناطق سيطرة الحوثي، حيث كشفت عنه وثائق تم نشرها سابقاً مع بداية سيطرة الحوثيين على وزارة التربية والتعليم، والذي يفضح توجه الجماعة لاستقطاب مزيداً من المجندين في صفوفهم. وضجت حينها مواقع التواصل الاجتماعي، حول تلك الوثائق، فقد علق حساب حسن علي الوزير -على فيسبوك- قائلاً: بأن "إعفاء الطلاب الملتحقين بجبهات – الحوثي- القتالية من امتحانات الثانوية العامة ومنحهم معدلات بصفة استثنائية بين 75٪ و 90٪، مكرمة استدراجية حوثية"، لكنه يعقب "طبعاً لا قلق من هؤلاء الشباب الذين يمنحون معدلات بدون تعليم لأنهم بكل الأحوال لن يعودوا من الجبهات".
ويفسر حيدر علي، الأسباب حول انتشار ظاهرة الغش فيقول: "لما يسلموا الرواتب ويوفروا الكتب يدوروا مخرجات تعليمية صحيحة، ويجوا حكام نزيهين يهمهم الرقي بجودة بالتعليم ومخرجاته لصالح البلاد وقتها بح غش أما لو استمر الوضع بيكون الغش والنجاح بشكل مستحق ورسمي".
أما نبيل الدعيدع، فيرى أن "الضرورة تبيح المحظورات، فعندما لا يوجد علم كيف سينجح الطالب إلا إذا غش! فبدونه وفي ظل الأوضاع الموجودة لن ينجح طالب"، في وقتٍ يشير حساب عبدالفتاح أبو عمران إلى التمييز الطائفي حتى في الاستثناءات الخاصة بالأطفال المقاتلين في صفوف الحوثي، بقوله: "ما ينفذ إلا لعيال (السادة) أما الباقيين حرام أنهم راسبين، وعدوهم باختبار في الجبهة والآن ما زالوا في تاسع منتظرين الجنة وزملائهم مكملين الثانوية".
دلالات رقمية
ودشنت مليشيا الحوثي في 14 مايو الجاري، اختبارات الشهادات العامة للمرحلتين الثانوية والأساسية في مناطق سيطرتها، حيث تقدم لاختبارات الثانوية العامة 191510 طالبا ًوطالبة في 1300 مركز اختباري. ويشكل الطلاب في مناطق سيطرة الحوثي قرابة 69% من عدد المتقدمين على مستوى عموم اليمن والبالغ عددهم 277879 طالبا وطالبة؛ بزيادة بلغت 98674 طالبا وطالبة عن العام الدراسي 2013/2014 حيث كان عدد طلاب الثانوية العامة آنذاك يقدر بـ 179.205 طالبا وطالبة.
وعملياً يتحكم الحوثيون بالكتلة التعليمية الأكبر من خلال سيطرتهم على محافظات الكثافة السكانية (أمانة العاصمة، صنعاء، عمران، ذمار، إب، البيضاء، المحويت، ريمة، وأجزاء واسعة من صعدة، الجوف، الحديدة، حجة، وأجزاء من تعز، مأرب، الضالع، لحج).
في الرابع والعشرين من إبريل المنصرم قالت وزارة التربية في مناطق الحوثيين، بأن عدد الطلاب بلغ حسب قوائم المراكز الاختبارية (191511) طالباً وطالبة، تم اصدار أرقام الجلوس لعدد (187668) طالباً وطالبة، فيما بلغ إجمالي من لم تنطبق عليهم شروط التقدم (3843) طالباً وطالبة منهم (1856) طالباً وطالبة بدون صور شخصية.
وطرحت تساؤلات كثيرة حول العدد المتبقي ممن لم تنطبق عليهم الشروط، حيث تم قبولهم لاحقاً ما أثار الشك حول قرابة (4000) طالباً وطالبة وإن كان الرقم يعتقده الكثير هو من نصيب اللجان الثورية للمقاتلين في جبهات المليشيات.
حبل "الغش" على الغارب!!
لم يعد الريف المحتكر لظاهرة الغش، بعد أن كانت وزارة التربية قبل سيطرة الحوثي قد عملت على حصار الظاهرة وإيجاد حلول لها حسب مدير تربية الجوف، أما في ظل الحوثيين فقد ارتكست للأسوأ، حيث تفشى الغش وتركوا "الحبل على الغارب بما في ذلك إخراج دفاتر الإجابة خارج المركز الاختباري بقصد حل الأسئلة، وتسجيل كل من هب ودب فأصبح التعليم مثل السوق لا معايير ولا جودة".
ويؤكد محسن: "بدأ العام الدراسي 2021-2022 بدون معلمين أو معلمات وبدون كتب دراسية وبدون رقابة أو توجيه، وجمع للجبايات من الطلاب لتسيير العملية التعليمية والتربوية، وبمنهج طائفي وعنصري فكيف يتوقع أن تجري العملية الاختبارية في ضوء ذلك، وأصبحت ظاهرة الغش في ظل المليشيات سلوكاً وممارسة بدون أي حواجز بل يستفيد القائمون عليها من جمع المال لأغراض شخصية مقابل تسهيل عملية الغش".
وفي ذات السياق يؤكد قيادي تربوي من محافظة البيضاء -يحتفظ المحرر بهويته خشية على حياته، بأنه وفي "أغلب المراكز الإمتحانية طلاب ومعلمون يصورون الامتحان ويرسلونه عبر الواتس لمعلمين متخصصين وبعد ذلك يتسلق أطفال الجدران فيما ينتظر أولياء أمور عند بوابات ونوافذ اللجان يتحينون الفرصة لـ(تغشيش) أبنائهم بإدخال الإجابات، فيما يتشارك الطلاب الإجابات في القاعة".
ويضيف: "تجسد ظاهرة "الغش" وتطور أساليبها في مدارس محافظه البيضاء النتيجة الطبيعية لقطع رواتب المعلمين وقلة وعدم إيفاء الأجور المستحقة لأعضاء لجان المراقبة والأمن، مما يجعل الكثير من المعلمين النزيهين والمتميزين يرفضون المراقبة ورئاسة المراكز فينتهز الفرصة معلمون ورجال أمن ممن لهم طلاب أقارب في هذه المراكز أو يجمعون مبالغ مالية من كل طالب ليصل إليهم الحل عبر الوتساب".
واطلع معد التقرير على وثيقة رسمية تم الرفع فيها من قبل رئاسة أحد المراكز عن "وجود لجنتين أمنيتين" مهمة إحداهما تسهيل عمليات الغش بشكل سافر.
التفسير العلمي
يفسر المفكر الدكتور عبدالباقي شمسان الأستاذ بجامعة صنعاء ما يقوم به الحوثيون في الاختبارات العامة من غش واسع النطاق، بقوله أن "تزوير الشهائد هو نوع من منح نجاح وهمي للناس محاولين كسبهم وإشعار الآخرين بأنهم –الحوثيين- قادرين على منحهم المنافع لهؤلاء الذين يضحون بأرواحهم مع هذه الجماعة".
ويؤكد بأن ما يجري في مناطق سيطرة الحوثي، "عمليات ممنهجة قائمة على تغييب الوعي والقوانين والدولة وعلى استمرار البنية الاجتماعية التقليدية المتخلفة التي غرستها – هذه الأسر الإمامية- بالتفاوت بين الطبقات، وعملها على تعميم الأمية وعدم انتشار العلم وعلى ضعف وحصر الثقافة بالدينية ذات العلاقة بمنح شرعية الحكم لهذه الأسر المقدسة".
لكن شمسان يعتقد أن ما تقوم به المليشيا "مشروع فاشل، ولن يستسلم له اليمنيون، ولن يقبلوا بهذه الجماعة التي تحاول أن تتعامل على أنها الأعلى وصاحبة القداسة، وإن قبل به اليوم تحت حد السيف فإنه مؤقت"
ويضيف "يوظفون النجاح والرسوب لكسب أولئك الذين يأخذونهم إلى المعارك وإلى الموت".