لا تتوفر أي أرقام عن مخازن ومتاحف آثار اليمن، التي تفتقر للتجهيزات الحديثة، ولا يُطبق فيها أي إجراءات حديثة في الحفظ المخزني والحراسة المتحفية، بعض المخازن مغلق في مناطق صحراوية منذ أكثر من 15 سنة، وبعضها دمرته النزاعات، ومنها ما تتغذى على مخزونها الحشرات، ومنها ما نهبه اللصوص وتنظيمات إرهابية والبقية منها أتت الحرب الدائرة حالياً على بعض منه تدميراً ونهباً، وبعضٌ آخر بات خارج إشراف الإدارة الرسمية والبقية المتبقية تتقاسمها سلطتا هيئة الآثار والأمر الواقع.
قد تكون «القدس العربي» أول وسيلة إعلامية ترفع الستار عن واقع مخازن الآثار في هذا البلد الذي انهكته الحرب الراهنة وتسببت بنزيف كبير في تراثه الثقافي وفي مقدمة ذلك مخازن ومتاحف آثاره.
اليمن يعيش اليوم حالة حرب وجميع متاحفه مغلقة، فكيف هو حال مخازن الآثار؟ الجواب مريرٌ ويمكن استهلاله بالقول إنه لا يتوفر أي رقم بخصوص المخازن والمخزون، ولم تسَلَم من السرقات مخازن ديوان الهيئة العامة للآثار، فكيف هو حال المخازن في الأطراف والصحارى؟ أكثر من ثلاثين متحفاً متنوعاً تنتشر في اليمن، بعضها تابعة لهيئة الآثار والمتاحف وعددها (22) متحفاً دمرت الحروب أربعة، منها متحفان دُمرا خلال وبعد الحرب الحكومية ضد التنظيمات الإرهابية في الجنوب عام 2011، فيما دمرت الحرب المستعرة حالياً ثلاثة مخازن في مدينة براقش/ مأرب (شرق) بالإضافة إلى متحفي تعز (جنوب) وذمار (وسط) فمتحف ذمار تم قصفه بالطيران وتدميره كلية ما تسبب بإتلاف أزيد من خمسة آلاف قطعة أثرية، وكذلك متحف تعز الذي نُقلت معروضاته ومخزونه قبل قصفه إلى مخازن آمنة، إلا أنه تم نهبها لاحقاً وما يزال مصير مخزونها مجهولاً، وفق رئيس الهيئة العامة للآثار والمتاحف مهند السياني.
ومع إغلاق جميع متاحف البلاد يتجلى واقع مرير آخر هو واقع مخازنها التي تضم أضعاف معروضات المتاحف، بل إنه مع استمرار إغلاقها تصبح جميع المتاحف مجرد مخازن، فكيف هو حال هذه المخازن مع المخازن الأخرى في الهيئة والمواقع الأثرية؟
يكفي أن نقف على حال مخازن المتحف الوطني في صنعاء، وقد يكون أكبر المتاحف في اليمن، وعدد معروضاته، قبل إغلاقه، قد لا يتجاوز ألف قطعة بينما تضم مخازنه أكثر من سبعين ألف قطعة، لكن هذه الآلاف من القطع الأثرية المخزنة منذ سنوات طويلة تفتقر لأبسط تجهيزات الحفظ والتخزين! يقول أمين المتحف إبراهيم الهادي والألم يعتصر كلماته: «الوضع لا يُطاق، هل أقول لك إن المومياءات مكوّمة مثل أي بضاعة فاسدة مُعدّة للتخلص منها. يكفي أننا لم نستطع منذ سنوات مواجهة الحشرات والقوارض التي أتلفت الكثير من القطع الأثرية نتيجة عدم تجاوب المعنيين».
يكاد يكون مجال الآثار في اليمن أكثر المجالات افتقاراً للأرقام، فهيئة الآثار لا تملك أرقاماً دقيقة كاملة ليس عن مخزونها من الآثار، بل حتى عن عدد المخازن، لدرجة لم نجد أي سجلات دقيقة وشاملة عن أي شيء يخص المخازن وكذلك المتاحف.
وهذه الحقيقة مفادها: لا قاعدة بيانات يمنية عن ثروة البلاد من الآثار معروضاً ومخزوناً، حتى الآن.. ومع غياب قاعدة بيانات فإنه بالتالي لا يتوفر أي دليل عن سرقة، ضياع، إهمال، عبث إلا في حدود ضيقة جداً، أي أنه بإمكان القائمين عليها التصرف بها كيفما يشاؤون، إذ ليس هناك جرد سنوي ولا تقارير استلام وتسليم بين مديري المتاحف والمخازن. والمبرر الذي يطرحه المعنيون في هيئة الآثار هو عدم توفر الميزانية اللازمة، وهنا السؤال: علام تنجز الهيئة مهامها وواجباتها طيلة السنوات الماضية منذ نشأتها في ظل افتقادها لقاعدة بيانات؟
وفق (تقديرات) مدير عام المتاحف في الهيئة العامة للآثار والمتاحف عبد المنان العبسي فإن مخزون اليمن من الآثار يتجاوز 300 ألف قطعة أثرية غير موثقة موزعة على نوعين من المخازن:
المخازن المؤقتة وهي التي تُقام في مواقع الحفريات بالإضافة إلى المخازن الخاصة في ديوان الهيئة في صنعاء.
المخازن الدائمة وهي مخازن المتاحف.
مخازن مؤقتة
المخازن المؤقتة هي عبارة عن غرفة أو أكثر تقع في إطار منطقة عمل بعثة التنقيب الأثري، ويتم فيها إيداع وتجميع القطع المكتشفة لفترة مؤقتة تُنقل بعدها إلى مخازن مؤقتة أخرى في ديوان هيئة الآثار في صنعاء، التي تُنقل إليها أيضاً: القطع المضبوطة من الشرطة في المنافذ، ومقتنيات الهيئة من المواطنين. وفي مخازن الديوان يُفترض أن تتم دراسة القطع وتوثيقها ومن ثم نقلها إلى المخازن الدائمة في المتاحف للترميم والعرض والتخزين. لكن الواقع أن الهيئة لم تدرس ولم توثق ولا تمتلك أي إحصاءات بمخزون مخازنها في المواقع وفي الديوان وفي المتاحف أيضاً ولهذا ومنذ سنوات طويلة والآثار مُكدسة في هذه المخازن ولا عناية من أي شكل، بل إن بعض مخازن المواقع مغلقة منذ فترة طويلة بعضها منذ أكثر من 15 سنة مع افتقارها لأي تجهيزات، بل لا تعرف الهيئة متى آخر مرة تم فتحها وتفقدها.
يعزو مدير عام الآثار في الهيئة محمد الأصبحي ذلك إلى «مشاكل كبرت وتطورت» لكنه لم يفصح عن حقيقة تلك المشاكل، فيما أرجع نائب رئيس الهيئة عبد الله محمد ثابت بقاء تلك المخازن مغلقة لسنوات طويلة إلى «وضع البلد ووجودها في مناطق نزاع، وبالتالي لا أحد يستطيع الوصول إلى هناك، لكنها قبل وقوع النزاع كانت آمنة، أما الآن فللأسف لا نعرف ما هو مصيرها، إلا أنني لا أعتقد أنها تعرضت للضرر، فبعضها كانت محمية من القوات المسلحة وبعضها خاضعة لسلطة القبائل الذين قد يكونون محافظين عليها». أما ما يخص سبب تعثر نقل مخزون المخازن المؤقتة في ديوان الهيئة إلى المتاحف، فيعود وفق رئيس الهيئة مهند السياني، «إلى ارتباط معظم القطع بقضايا منظورة أمام القضاء وارتباط بعضها الآخر بالتزامات مالية متعثرة لدى وزارة المالية». توجد أهم مخازن المواقع في محافظتي مأرب /شرق ولحج/جنوب، وقد تعرض بعضها لمخاطر تدمير خلال الحروب، ووفق السياني، تم خلال الحرب الدائرة حالياً تدمير ثلاثة مخازن في منطقة براقش في محافظة مأرب، ومتحف بمخزونه في ذمار ومتحف في تعز مخزونه مازال مجهول المصير، في ما تسببت الحرب السابقة خلال عام 2011 في نهب مخزن في محافظة لحج وتضرر مخازن أخرى هناك.
مخاطر جمة تتهدد هذه المخازن أهمها السرقات، فحتى مخازن ديوان الهيئة في صنعاء لم تسلم من اللصوص، والأكثر إثارة أن أحد موظفي الهيئة، وفق تحقيقات النيابة، كان هو رئيس عصابة إحدى السرقات التي تعرض لها مخزن الهيئة، وهو نفسه أيضاً من قاد عصابة سرقة المتحف الوطني في صنعاء قبل ثلاثة أعوام.
مخازن المتاحف
لا تمتلك متاحف اليمن إمكانات العمل المتحفي العصرية كمبنى مجهز بمرافق متكاملة ومخازن محرزة وقدرات أمنية وفنية وميزانية كافية، فمعظم مبانيها هي مبان تاريخية تقليدية وتجهيزاتها ماتزال بسيطة ومخازنها غير مؤهلة، كما أنها ليست موثقة كما أسلفنا. قدرات المتاحف اليمنية وميزانيتها لا تفي حتى بنفقات التشغيل اليومي، أما حراستها فما تزال مشكلة كبيرة. نزيف السرقات لم يتوقف في هذا المتاحف. إن مشكلة مخازن متاحف الآثار في اليمن تكمن – وفق عبد المنان العبسي – «في عدم توفر المال وضعف الميزانية، ونتيجة لهذا لم تستطع الهيئة تنفيذ توثيق شامل لمحتويات المتاحف والمخازن، عدا توثيق جزء كان ينفذ بين فترة أخرى لم ينجز أكثر من 10 في المئة، ولضعف الميزانية وانعدامها تماماً في السنوات الأخيرة، فانه لا يتم تنفيذ إحصاء دوري وجرد سنوي لمخزونها»، مشيراً إلى خطط ومشاريع تعثرت بسبب رفض وزارة المالية منح الهيئة ما تستحق من موازنة. وبالتالي فإن الوضع الراهن لمخازن المتاحف «هو نتيجة طبيعية، لأن ميزانيتها الحالية – والحديث مازال للعبسي – هي صفر، وحتى في الفترة السابقة لم نكن نجد تفهماً واستيعابا لخصوصية وأهمية هذا القطاع من قبل المعنيين بالميزانية في الحكومة، ومازلنا لا نجد أي تجاوب تجاه أي مشاريع نتقدم بها بسبب ضيق أفق القائمين على الأمر». يخلص كاتب السطور إلى أن هذه الواقع المرير لمخازن الآثار في اليمن هو نتيجة (الإهمال الحكومي الفج) الذي يبدأ من الهيئة العامة للآثار والمتاحف، و ينتهي إلى صانع القرار في السلطة التنفيذية، فهذا الإهمال هو المجرم الحقيقي، بل الفساد الحقيقي الذي يتهدد ثروة هذا البلد… فتلف كامل مخزون متحف التراث الشعبي في صنعاء قبل نحو عشر سنوات لم يكن بسبب الافتقار للمال، بل كان توفر المال هو السبب من خلال الإهمال والفساد في التعامل مع مشروع تأهيل مبنى المتحف… وما أسفر عن الإضرار بالمبنى وإتلاف كامل مخزونه من القطع الأثرية، من دون محاسبة المتسبب أو المسؤول عن تلف جميع مخزون المتحف. لا ننكر، كمراقبين، الوضع الصعب في ميزانية هيئة الآثار والمتاحف منذ إنشائها، لكن تبقى الإدارات المتعاقبة عليها مسؤولة عن استمرار بقاء هذه الهيئة حتى اليوم تراوح مكانها، لم تقطع خطوة حقيقية إلى الأمام في ميزانيتها وبنيتها التحتية، ما يجعلها تبدو – أمام البعض- المستفيد الأول من بقاء هذا الوضع على ما هو عليه، وبالتالي المسؤول الأول عن فساد وضع حماية وحفظ وتخزين ثروة البلد من الآثار، حيث تتضاعف المخاطر التي تتهددها اليوم بسبب الحرب، وهو ما عبرت عنه بقوة مخرجات ندوة عن التراث الثقافي لليمن شهدها مبنى البرلمان الفرنسي في الآونة القليلة الماضية بمشاركة باحثين فرنسيين ويمنيين طالبوا فيه مجلس الأمن بإصدار قرار يحّرم ويجّرم تداول الآثار اليمنية على غرار قرارته ذات الصلة بالآثار العراقية والسورية، خصوصاً في ظل الوضع الصعب الذي يعيشه البلد تحت نير الحرب والتهديدات والمخاطر التي تتعرض لها الآثار وما لحق بها من خسائر وما سيلحق بها من قبل أطراف الحرب وعصابات التدمير والتهريب في ظل ما تعانيه من إهمال وفساد جراء تركها بدون توثيق وبلا أدنى عناية وحماية.
ليبدأ الحديث الآن عن خطة إنقاذ عاجلة لتراث وآثار اليمن.