قد يكون حكيم العاقل (1965)، أول فنان في اليمن اشتغل على لوحة الحرب بتجريدية تعبيرية ترصد وتراقب وتتأمل وتصور ملامح الخوف بكل فصوله، معتمداً على (عين الطائر) في تصوير مناظره من أعلى إلى أسفل، متنقلاً بين مناطق مختلفة، مدينةً وريفا.
لم تقتصر مجموعته الجديدة على الحرب، فعشرة منها للحرب وضعفها للسـلام؛ لأن «السلام هو الحالة الطبيعية، بينما الحرب هي الاستثناء، وقد تعاملتُ مع السلام من خلال مناظر الطبيعة من مخزون ذاكرتي المكانية للبيئة اليمنية بما تحمله من تفرد وخصوصية تسكنني وتعيش معي، بل هي جزء من تكويني الإنساني ومرجعيتي التي لا تنضب» متحدثاً لـ«القدس العربي».
قدَّم حكيم، وهو الحاصل على الماجستير في فن الجداريات في أكاديمية سوريكوف في موسكو، لوحات تنز ألما بتعبيرية تجريدية توحد فيها إحساسه بالمرارة بإحساسه بالخوف مما يجري ومما قد يجري، متميزاً باصطياد اللحظات والربط في مناظرها بين الأشكال الإنسانية المفزوعة والأشكال المعمارية والتفاصيل المحيطة في سردية وشاعرية لونية استعان فيها بذاكرته البصرية وعلاقته الخاصة بالمكان، كحامل حضاري يعكس الهوية… يوضح «الهوية مرتبطة بالفن، وكلاهما تعبير عن الجمال؛ ولهذا أجدني مرتبطا بتلك التفاصيل في لوحتي».
كما اعتمد، في رصد آثار الحرب وتصوير ملامح الخوف والألم، على إحالات المتخيل، «فكل ما صورته من مشاهد الحرب هو نتاج خيالي، وفي بعضها نتاج كوابيس، وبالتالي لو اعتمدتُ على الواقع لكنتُ أقربُ إلى الفوتوغرافي والوثائقي، لكنني فنان!».
في سياق تجربته؛ يبقـــى هذا الفنان، باحثاً عن مسارات إبداعية رصينة ومتجاوزة، ممسكاً بناصية التعبير التشكيلي القادر على تجسيد اللحظة بأمانة تاريخية وإنسانية، وكما يقول « عندما أرسم لا أفكر كثيراً».
ولهذا يجد المشاهد نفسه يتنقل بين أجواء مختلفة للألم والحُلم في لوحاته؛ وهذا ليس غريباً عليه، وهو المتمكن من أدواته والمسيطر على عناصر عمله؛ والأكثر إبهاراً تقنياً في تكنيك (عين الطائر) على صعيد سبك المشاهد وتنغيم الأشكال والألوان.
يعتمد هذا التكنيك على منظور مشاهدة الأشياء من الأعلى إلى الأسفل، وهي تجربة استغرقت من الفنان سنتين حتى أتقن هذا النمط، الذي يتطلب دمجاً فنياً بين الخيال والواقع والمكان والزمان، ويأتي معه العمل شمولي المبنى والمعنى ممهوراً بحرفية الرسم والتكوين والتلوين، التي هي نتاج تجربة وخبرة طويلة، تألق فيها الفنان وعزز بواسطتها مكانته في المحترف العربي وفق قراءات نقدية عديدة.
ربما أراد حكيم باعتماده على هذا المنظور في تقديم أعماله الأخيرة، أن يعزز من مكانته شاهداً بعيداً عن مواقف طرفي الحرب، حرصا منه على أن «أشاهد كل شيء من دون أن يشاهدني أحد».
ورغم اشتغاله على السياسة، هذه المرة، انطلاقاً من قناعته أن «الفنان في الأخير موقف من اللحظة»؛ إلا أن الموقف لم يكن واضحاً سياسياً على سطح اللوحة بقدر وضوحه إنسانياً؛ ولعل هذا الالتزام المحايد هو من مقتضيات واقع جديدة تفرضه الحرب.
هذا الخطاب الجمالي الثقافي الذي تتدفق به هذه اللوحة، لا يكتمل إلا باللون الذي يأتي ملمحاً أكثر خصوصية من ملامح تجربته؛ فألوانه، بصرف النظر عن انسجامها أو تضادها الموضوعي مع الشكل، تفيض تعبيرية تتجلى معها رؤى وتأملات، وتشع بريقاً يمنح اللوحة شاعرية تقابل سردية الأشكال؛ فتتناغم تجريدية الشكل مع تعبيرية اللون؛ فتأسرك اللوحة، التي صار ينجزها، أحياناً، في ساعتين بعدما كانت تستغرقه، أحياناً، شهراً… «فتجربتي أصبحت مستقرة؛ وتتجدد مع كل لوحة، وربما أن إشراقية وبهجة ألواني تعكس شغفي بالحياة وتفاؤلي وحلمي بالسلام. ويبقى التلوين، في الأخير، تجربة وإحساسا».
في مجموعته الأخيرة «الحرب والسلام»؛ يكون حكيم العاقل قد دخل، بالفن التشكيلي اليمني المعاصر، إلى المناطق الأكثر مأساوية في الحياة، وهي الحرب، التي يصبح معها النص البصري متفاعلاً مع أشد اللحظات الإنسانية ألماً وحلماً، من منصة تأمل متموضعة بين الواقع والمتخيل وتستوعب الزمان والمكان.
الفنان ?التشكيلي حكيم العاقل… حرب اليمن بعين الطائر
(مندب برس- القدس العربي)