أيام "سلوى"، بطلة رواية "المشرحة" للكاتبة اليمنية "سمية طه"، رتيبة، تسير بكل اعتيادية وهدوء
. لا شيء تفعله في نهاراتها سوى الاهتمام بمنزلها وابنها الصغير "حمزة"، إيصاله إلى المدرسة، التسوق، الطبخ، زيارة أهلها، وبضع مكالمات يومية مع زوجها المسافر.
غير أن تحت تلك الحياة ثمة حياة أخرى، صاخبة وهدارة، تجري في داخل رأس "سلوى" وعواطفها وذكرياتها، فتخربط كيانها وتهزّ رتابة أيامها، وتثبت من جديد أن الماضي لا يتركنا.
"أقرر السير عكس اتجاه الطريق الذي يأخذني إلى المنزل، تنهب سيارتي الطريق نهباً نحو الجهة الجنوبية من المدينة التي لا أزورها إلا في ما ندر.
ثمة أشياء تستيقظ في الذاكرة أثناء رحلة صامتة يعبر الجسد خلالها نقطة التقاء خطي الزمان والمكان، فتتراكض الأحداث الماضية كالأشباح في كهف مظلم، بلونها الشبحي الذي لا يمكن أن يخفيه أي ظلام مهما كان حالكاً".
في ذاك الماضي الذي يعود ليؤرق حياة سلوى حادثة أليمة، لكنها غير مكتملة في ذاكرتها، لذلك فهي ترويها بنتفٍ متناثرة هنا وهناك بين صفحات السرد الذي يوثق تفاصيل أيامها البسيطة، إلى أن تلتقي مصادفة في مدرسة ابنها بصديقة الطفولة "لمياء" ثم تجمعها الأخيرة ببقية الصديقات القديمات، وتبدأ أحاديثهن التي تحركها أسئلة سلوى بكشف الأجزاء الناقصة من الحادثة التي جرت في كلية الطب في صنعاء، حيث كان "سفاح صنعاء" يستدرج الفتيات إلى غرفة المشرحة في الكلية، فيفعل ما يفعل بهنّ، ثم يقتلهن ويدفن جثثهن تحت تلك الغرفة.
الجرائم التي تعددت وكثرت، وُجهت فيها أصابع الاتهام إلى أحد الأساتذة الذين يدرّسون في غرفة المشرحة، ثم أعدم رمياً بالرصاص، لكن بطلة الرواية لديها شكوك حول كل ذلك.
"لقد أعدم القاتل أمام الناس، رصاصة.. رصاصتان.. ثلاث، وحين لم يمت، أردوه برصاصتين أخريين، وسط هتافات الناس، ونظراتهم المتشفية والمترقبة.
وكأن جموع المحتشدين أتت لتشهد موت خوفها وهلعها، وتدفن العار الذي لحق ببناتها.
"لقد ذهب القاتل إلى الجحيم يا سلوى وانتهت القضية"، يرتفع صوتها وأشعر بالغضب في كلامها. لكننا لم نحصل على إجابات، لم نعرف ما حدث ولم نفهمه، ولم نكن متأكدين حتى من أنه القاتل الحقيقي".
في الرواية هناك خطان زمنيان يسيران بالتوازي، الأول هو الحاضر الذي تعيشه البطلة وتروي تفاصيله بأدق منمنماتها، والثاني هو الماضي الذي يعود على هيئة صور وأفكار وخيالات.
يتقاطع الزمنان حين تلتقي بزميلات الدراسة وتعاود نبش الماضي، تحاول فهم ما حصل وكيف انعكس عليها وأثّر على كل حياتها، وكيف كان حلمها الذي رافقها طوال حياتها هو دخول كلية الطب، وحصلت على الدرجات التي تؤهلها لذلك في امتحان الثانوية، لكنها فوجئت بقرار أبيها الرافض لدخولها الكلية، رغم أنه كان حلمه أيضاً، لكنه خاف من مصير مشابه لمصير والد "حُسن"، الوالد الذي فقد ابنته وجنّ جنونه فصار يدور في غرف الكلية وفي أروقتها باحثاً عنها ليكتشف في ما بعد أنها ترقد جثة هامدة تحت غرفة المشرحة.
هكذا أعلن الأب قراره وحكم على ابنته بعدم متابعة الدراسة، ورضخت "سلوى" وتزوجت من شاب غني يعمل في "هونج كونج" وأنجبت منه ابنها الذي تكرّس له كل حياتها.
لا أفكار كبيرة في هذه الرواية، هي سردٌ يقوم على التداعي والتذكر. اللافت فيها، كما في كل الروايات الصادرة عن محترف "كيف تكتب رواية"، هو اللغة المشذبة والانسيابية، لا مكان لكلمة زائدة، ولا مكان لفقرة فائضة، ومهما كانت الحكاية أو الحبكة قوية أو ضعيفة أو متوسطة، فإنها مكتوبة بشكل جيد: نصٌ مترابط، سلس، لا زوائد فيه.
في النهاية بعد أن تسوء حالة البطلة بسبب تلك الذكريات، تُجبر على اللحاق بزوجها كما أُجبرت على الكثير من الأشياء في ما مضى، رغم إرادتها ورغم أحلامها وآمالها ورغباتها.
لا إمكانية لتقرر هي شيئاً في حياتها، هناك من يقرر عنها كل شيء.
وهي في طائرتها ثمة مشهد واحد تراه: "المرأة الغبية واقفة مجدداً في بقعة الضوء، كأنها لا تعلم مصيرها وتنتظر فحسب، الشبح يتسلل ثانية بهدوء، دون أن تشعر به، يدفعها بعنف شديدن فتسقط على الأرض.
يمسك رأسها ليضربه، فتستدير لمرة، وأرى وجهها المرتعب، أراها ممسكة رأسها بيديها، تهمّ بالصراخ... هذه أنا! هذه أنا التي تموت هنا...".
يبدو أن "سفاح صنعاء" لا يموت، هو موجودٌ في كل مكان وبنسخ عديدة، وما زالت ضحاياه من النساء إلى ازدياد، يرقدن هناك تحت أرضية المشرحة، رغم أنهن يعشن بيننا هنا والآن.
سمية طه كاتبة يمنية، ولدت عام 1985 في عدن وتقيم في صنعاء.
تخرجت من كلية نظم المعلومات الإدارية عام 2007.
أنجزت رواية "المشرحة" في إطار محترف نجوى بركات "كيف تكتب رواية" في دورته الثالثة 2014-2015، بالشراكة مع برنامج آفاق لكتابة الرواية.