( الليلهْ البال.. ما للنسمَة السارية / هبَّت من الشرق فيها نفحة الكاذيه// فيها شذى البن فيها الهمسة الحانية.. // عن ذكريات الصبا في أرضنا الغالية *** الليلة العيد.. وانا من بلادي بَعِيد/ ما في فؤادي لطوفان الأسى من مزيد// قلبي بوادي “بنا”، و”ابين”، ووادي “زبيد”/ هائم وروحي أسير الغربة القاسية).
هكذا، دون حواجز أو تراجم لعوالم النصوص، تجد روحك اليمنية بعفوية مُطْلَقةٌ حين تقف على نصٍّ كهذا، ربما لأن قائله صار إشعاعاً يماني الأصل في مسار السهل الممتنع الذي لا يصدر إلاَّ ممن سبَرَ أغوار الثقافة الموسوعية وعاش الثقة بأدوات الخطاب نظماً ونثراً وطرحاً منطقياً.. إنه شاعر ومُؤَرِّخ اليمن الكبير العلاّمة مطهر بن علي الإرياني- الذي وافته المنية أمس الثلاثاء في العاصمة المصرية القاهرة – حيث التقى الأدب والتاريخ والفكر والُّلغة.. يقرأ بعقله، وليس بعاطفته، فتفرُّ السِّياسة هَرَباً من عمقه المعرفي، ويتحدَّث من صدر كتاب أضناه الخلود، لا من مجلس اختلط فيه الحابل بالنَّابل، وينسلُّ غبشاً فجرياً ليرسم لليمانيين سفراً خالداً، يعيشونه ولا يدوّنُونه، ويصنعونه ولا يتفاخرون به، ويحفظ موروث البادية في أغنيةٍ ينحني لترجيعها مَعْبَد الشَّمس، حين تظن الغُربة أنها قد فتَكتْ بآخر خيوط الهويَّة اليمنية، ويعتزل الناس حين يلوك الجدل العدمي أعمارهم، ليعيش أعمار (سبأ وحِمْيَر وذي ريدان ويَمَنت ومنت)، فيشرقُ يافع المعرفة، بهيُّ العطاء، أصيل الكلام، وصامتاً يمضي بعلمه كالسَّهم، لا يلتفت لغير إعلاء وصون الهويَّة اليمنية، من فيض حقائقٍ تَضُوع أزمنةً من حضارة، ويسجِّل قناعاته زبدةً تضيءُ الفكر والثقافة تاركاً الحكم للعقل، والّلوْم على الحقيقة.. لنبحرُ سويّاً في سطور هذا (البروفايل) عن عُمْدة الُّلغة، وترجمان الَّلهجات، سليل أسرة الإرياني، ورمح “هجرة” إريان….
(يا حارس البُّن بُشْرى.. موسم البُّن داني/ ما للعصافير سكرى.. بين خُضْرَ الجنانِ // هل ذاقت الكأس الاول.. من رحيق المجاني ؟! / واسترسلت تطرب الأكوان قاصي وداني! // قال ابشروا بالخبر/ بشاير اول ثمر// ظهر بلون الخَفَرْ / على خدود الغواني ).
هذا هو الاوبريت الزراعي- الممَوسَقْ بوتر وصوت فنان اليمن الكبير علي بن علي الآنسي- وهو العرس اليماني الذي لا يجهله أحدٌ، وليس بمقدور وجدان أي يمني (فلاحاً، ومعلماً، وتاجراً، ومثقفاً( نسيانه أو تناسيه، بل سيظل دفـق وجدانه، متجدداً في أجيال المجتمع اليمني صبية وكهولاً.. إنها مُغَنَّاة “الحُبِّ والبُن”، القصيدة الأجود، شعراً وفناً، حيث تتداعى وتتصاعد التصاوير الشِّعرية في معارج فنية، تتشابك فيها الرموز العاطفية والوجدانية والملحمية المعبِّرة عن اشارات زراعية، لتأخذ بنُيتها الفنية مساراً نَمَتْ فيه دلالات الوفرة والخصب وروح الانتماء: (وبالغلال الهنية نبتني عشّ واحد / يضم قلبين مشغوفين في حُبْ خالد // نعوَّذه بالوفا والحبّ من كل حاسد/ ونحرسه بالمودهْ والصفا والحنانِ // يحميك من كل شَرْ/ يا عِشّنا والمَقَرْ// يا مَهْد كلَّ البَشَرْ/ يا رمز اسمى المعاني)..
إشارات ملحمية
بشيءٍ من هذا الأُوبريت أحاول الإبحار في أقرب مساحة مختصرة من ضفة محيط لا يتسع هذا المقام لسبر أغواره العميقة، فهذا البروفايل المكثَّف -لغةً ودلالةً- ليس سوى محاولة لجَمْع بعض الإشارات الملحمية التي تستدير حولها سيرة إنجاز عطرة ونادرة، لحارس الهويَّة اليمنية ثقافياً وفنياً واجتماعياً وتاريخياً.. ومن ثم استقراء متواضع لوجدان بعض ممَّن عرفوه أباً وإنساناً ومفكراً ومؤرخاً ولُغُوِيّاً هُمَاماً.. فمؤرخ اليمن الكبير، وشاعرها وعلَّامتها المميَّز مطهر بن علي الإرياني- رحمه الله- من مواليد 1933 م 1353 هـ في أهم معاقل العراقة والمعرفة وأهم أبرز الهِجَر العلمية في اليمن، حيث شهد واحتضن مولده حصن (ريمان)، المعروف بـ(حصن إريان)، المطلّ على (هجرة إريان)، في (بني سيف العالي)، ناحية (القفر)، قضاء (يريم)، من محافظة إبّ- حسب التسميات الإدارية آنذاك- تلقَّى مرحلة تعليمه الأولى في (حصن إريان)، على يد عدد من علماء أسرته، والأستاذ العلامة (محمد قايد السرِّي)، وأخيه الأكبر (فضل بن علي الإرياني) الذي كان الموجِّه الأكبر له في مسار التكوين المعرفي، أما أخوه عبدالكريم الإرياني فهو أحد أعمدة البلد وأركانها السياسية، وصاحب حضور دولي لا يضارع وقائدٌ محنَّك، امتلك روح النبوغ المعرفي والحضور الاجتماعي والسياسي، ليغدو مهندساً سياسياً مخضرماً وداعياً للسَّلام ورمزاً للحوار طوال ما يقرب من خمسة عقود..
وبهذه الإشارة ندرك سماكة القاعدة الأولى لنشأته رحمه الله، ما جعله يترجم ميوله المعرفي في دقة متناهية حيث قرأ كُلّ ما وقع تحت يديه في مكتبة اسرته لتنبغ شاعريته وهو في سن الرابعة عشرة، وتميَّزت بداياته الأولى باكتمال البنية الشِّعرية اللغوية والعروضية.. لينشر في عام 1951م قصيدة في صحيفة (النَّصر)، التي كانت تصدر في مدينة تعز، ثم نشرت له ولأخيه (عبدالكريم) قصيدتان في (فتاة الجزيرة) بمدينة عدن- حسب سيرته الأدبية المتداولة بندرة واقتضاب- ليغادر إريان عام 1953م إلى مدينة عدن، ومنها إلى القاهرة ملتحقاً بكلية دار العلوم، جامعة القاهرة، في العام 1955م، التي تخرَّج منها عام 1959م..
وبعد عودته من القاهرة اتَّجه الخريّج الطموح نحو العمل الاعلامي وتحديداً الصحفي، فبعد قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م صدرت في تعز ثلاث صحف هي: الثورة، الأخبار، الجمهورية. فشغل منصب مدير تحرير في صحيفة الجمهورية ضمن أول تشكيلة لإدارة تحرير الصحيفة تحت رئاسة الأستاذ/ محمد حمود الصرحي، وخلال الفترة (31/12/1962-7/4/1963م) عمل الارياني مديراً لتحرير صحيفة الثورة.. ثم مديراً لتحرير جريدة “الأخبار” الصادرة في تعز، وفي عام 64م أصبح رئيساً لتحرير صحيفة الجمهورية، وفي 68م شغل منصب مدير مكتب الإعلام بتعز.. إلى جانب ذلك عمل طويلاً في السلك الدبلوماسي والاعلامي، وكان يحرِّر المقالات الأدبية والاجتماعية في صحيفة “اليمن” الصادرة عن قسم الصحافة والنشر بوزارة الإعلام، كما عمل في التعليم، و(مصلحة الآثار).
وعلى الصعيد العربي والدولي كان له حضورٌ مُبّكِرٌ في مجال التحصيل العلمي والبحثي، إذ تلقى دعوة لدورة دراسية في ألمانيا الغربية في عام 72م، مع المستشرق الألماني الكبير البروفسور (فالتر موللر).. كما إن له العديد من الدراسات والبحوث المنشورة في عدد من المجلات والدوريات اليمنية والعربية ذات الانتشار الواسع والاهتمام البحثي العلمي.. ومن مُؤلّفاته الشِّعرية..: ديوان فوق الجبل، والمجد والألم- قصيدة طويلة في الفخر بالقحطانية- وله شعر فصيح عمودي لم يجمع بعد في ديوان.. ومن مُؤلّفاته البحثية والمعجمية: المعجم اليمني (في الُّلغة والتراث) بطبعتيه الأولى والثانية، و(نقوش مسندية وتعليقات)، ومن أعماله الكبرى: تحقيق كتاب (شمس العلوم) لـ(نشوان بن سعيد الحِمْيَري)، بالاشتراك مع الدكتور (حسين العمري)، والدكتور (يوسف محمد عبدالله)، وهو العمل الذي صدر في اثني عشر مجلدًا، وصفة بلاد اليمن، بالاشتراك مع الدكتور (حسين العمري). ومن المؤلفات التي يعكف على استكمالها: نقوش مسندية لم تنشر من (مجموعة القاضي علي عبدالله الكهالي )، وكذلك التأليف السبئي الثالث والرابع.
ومن الإشارات الملحمية -حسب سيرة الإرياني التكوينية- أنه تعلق بتاريخ اليمن القديم، وقراءة أحرف النقوش المسندية، وأتقنها في عمر المراهقة قراءة وكتابة، ونسخ ما هو ظاهر من النقوش المسندية من حجارة وصخور، في حصن ظفار يحصب. عاصمة الدولة الحميرية، ولعله بذلك كان أول يمني في العصر الحديث يقف أمام نقوش المسند ناسخًا وقارئًا لها، وأخذ بعض الدروس الأساسية في الُّلغة العبرية؛ لصلتها القريبة من الُّلغة اليمنية القديمة، عن الدكتور (حسين فيض الله الهمداني)، الذي كان مدرسًا في كلية (دار العلوم) في القاهرة، وغيره.
امتلاك الجزالة
بهذه السيرة الوفيرة والانجاز والتحصيل العلمي والمعرفي تبرعمت تراكمات المعرفة لدى الإرياني حباً وعزلةً مع الاطلاع والبحث في أمّهات المراجع التاريخية والغور بعيداً حيث العصور الشاهدة على مراحل التاريخ اليمني.. وترسخت هذه الألفة مع البحث والعلم تباعاً لأكثر المراحل الخصبة التي كونت الذاكرة المعرفية الواسعة لدى الارياني في سنوات الدراسة الجامعية في القاهرة بين 55-59م، حيث اكتسبت موهبته مفاتيح الجزالة في الخطاب والكلام والعمق في الفكرة الموضوعية لكل ما يطرقه من قضايا في سياقات أدبية أو شعرية أو بحثية، فعلى الصعيد الإبداعي الشِّعري تكونت لديه في هذه المرحلة الأبعاد الفنية -شكلاً ومضموناً- والعُمق الوجداني للظاهرة الشِّعرية العربية من خلال القراءة المتأنية المفعمة بالتأثر بتجارب الشِّعر الجاهلي، والإسلامي، والأموي، والعباسي، ثم شعر التجديد الكلاسيكي، وشعر المهجر.. وربما كان هذا المحور هو من ساهم في صبغ قصائده بوجدانية الغربة ولكن بصبغة يمنية.. ومن مكتبة أسرته تأثّر ببعض دواوين الشِّعر الحميني (شعر العامية اليمنية)؛ فانجذب إليه، فنبغ في فن كتابة الأهازيج ذات الطابع الوطني ضد حكم الإمامة، والمهْجَلْ والأوبريت ذي الطابع المهني الزراعي..
ظاهرة فنية
(الحُبّ والبُّن “طاب اللقا والسمر”، الباله، يا دايم الخير دايم، فوق الجبل حيث وَكْر النسر، جينا نحيِّيكم، دق الجرس يا مهندس، أوبريت “هيا نغني للمواسم”.، أوبريت “سد وادي سبأ”، قالت الهائمة، خطر غُصْن القنا، الوداع “وقف وودّع”، صوت فوق الجبل، قالت الباكية، ما أجمل الصُّبْح، صوت جا من سبأ، يا بلادي نحن أقسمنا اليمينا، أغنية للأرض، يا عُذَيْب اللما).
من منِّا لم يسمع ويطرب لهذه الأغاني الأصيلة..؟! إنها بعضٌ مما احتواه ديوان الإرياني الوحيد “فوق الجبل” الصادر في 1991م في وقت متأخِّر من كتابة قصائده الغنائية -حيث يعود معظمها إلى نهاية الخمسينات والستينات والسبعينات- ذات العمق الموروثي، والتي لا استطيع ولا يستطيع كُثُيرٌ التعبير عن جمالها، أكثر مما قاله – تقييماً نقدياً لها- شاعر اليمن الكبير الدكتور / عبدالعزيز المقالح- في المقدمة التحقيقية لديوان “فوق الجبل”-: (ماذا فوق الجبل..؟ فوق الجبل شِعْرٌ نبتتْ قصائده على الورق، كما تنبت المزارع في المدرجات الجبلية، وأزهرتْ على الأفواه كما تزهر أشجار (البُّن) في القمم والسفوح.
وقال الدكتور المقالح: رغم قدرة وشاعرية الشَّاعر اليمني الكبير مطهر الإرياني في إجادة القصيدة العمودية ، إلاَّ أنه خرج عنها إلى القصيدة الشِّعبية الموغلة في الموروث الوجداني والشعبي اليمني، ومبعث هذا يرجع لأسباب فنية واجتماعية تتلخص في أن الأزمة التي يعاني منها الشِّعر العمودي والشِّعر عموماً، هي سبب ذلك التحول ، ففي الفترة التي بدأ فيها مطهر الإرياني ينظم قصائده الشعبية ، كان عددٌ آخر من الشِّعراء الشباب يشاركونه نفس الصنيع أو يفرون إلى القصيدة الجديدة أو إلى ألوان أخرى من الأدب، وكان ذلك التحول مرافقاً لبداية مرحلة التطور الاجتماعي والسياسي التي شهدها اليمن بعد وقبل سقوط الإمامة وقيام الثورة بفترة قصيرة، وأضيف هنا سببا آخر ربما استقيته من مناقشة طويلة مع الشَّاعر نفسه.. هو أننا نريد الذهاب إلى الشعب لاستعراض المواهب الكامنة فيه وفي لغته، بدلاً من دعوته إلينا لاستعراض مواهبنا نحن المثقفين”..
رغم كون ديوان “فوق الجبل” هو إصداره الوحيد إلاّ أنه يمثل بيت القصيد اليمني، ومعراج فنه الذي لا ينتهي، وبه سيظل نتاج مطهر الارياني الشِّعري حاضراً ليس لدى نخبوية المجتمع –فقط – بل ولدى العامة والخاصة، فعلى سبيل المثال قصيدة “البالة” رغم قِدمها لا تزال تصاحب الناس معبِّرةً عن جوهر حكايات الغربة ومُرّ ذكرياتها، ربما لأن التراجيديا الوصفية الحزينة التي تميّزت بها، جعلت كُثُرٌ من مثقفي المجتمع يعتبرونها إلياذةً اليمن، أرَّخَتْ لأكثر مراحل تاريخ اليمن السياسي شتاتاً، فهي مرآة فلسفيِّة عَكَسَت حقيقة ما ألمَّ بمسار البناء الاجتماعي والسياسي اليمني من تصدُّعٍ، لا يوجز حاله غير الشِّعر التصويري الذي نقلَ بإتقان مشهداً تدفقت منه حشرجات الترحال اليمني وموروثه الشَّعبي الغابر: (غنَّيت في غربتي يا الله لا هنتنا / ومزَّق الشوق روحي في لهيب الظنا // راجع أنا يا بلادي يا ديار الهنا / يا جنَّتي يا ملاذي يا امي الغالية )
البحث العلمي المعجمي
وفي البحث العلمي لم يكن الأستاذ مطهر الإرياني- رحمة الله عليه- يسترسل عرضاً مملاً لخيوط المشكلة بل يتدفق من جوهر المشكلة البحثية بحلول العقل الناضج على نار هادئة من الاستقراء الطويل لموضوع بحثه الذي نذر له سنوات من عمره.. وفي الموروث والَّلهجات والأدب الشَّعبي لا يغرق في التعدد مُضَيّعاً متعة الخيال بل يضع القارئ أمام إشارات ملحمية تقوده إلى تفرعات التنوع العقدي والمجتمعي والتاريخي وزحافات المشهد الثقافي الشِّعبي عبر الحقب والعصور، ومع تطوُّر ملَكَاته البحثية ارتقى في أعماله إلى مستوى البحث العلمي المعجمي، وهو ما تجلى في المعجم اليمني في الُّلغة والتراث- الصادر في مجلدين وُزِّعَت طبعته الثانية في يونيو الماضي- وقد عرّفه المثقف واللغوي الأستاذ مقبل التام وكيل وزارة الثقافة لقطاع الكتاب والمخطوطات بأنه: (كتاب لغة في أصله، لكن المرء ما أن يجلس إلى تضاعيفه حتى يصيب فنوناً شتّى في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والأمثال والحكايات، ولا يكاد المرء يفرغ منه لما اشتمل عليه من حـكايـا وقصص اليمانيين فهو قصد اليمني أرضـاً وإنسانـاً، قصـده مزارعا وشاعراً وفناناً)…
علَمٌ شامخ
“كلّما عرف الإنسان شخصاً، ورافقه زمناً طويلاً، وعايشه علماً وصداقة صعب الحديث عنه”.. هذا ما قاله الأستاذ الدكتور يوسف محمد عبــدالله – نائب رئيس المجمَّع العلمي الَّلغوي اليمني، مُؤكِّداً أنَّ الأستاذ مطهر الإرياني علمٌ شامخٌ من أعلام الُّلغة والأدب والتاريخ، تيسر له منذ صباه أن يعنى بالَّلهجات اليمنية وأدخل بدرجة أساسية لهجات المناطق الوسطى، ثم اشتغل بالُّلغة العربية بعد أن تخرج من أعرق الجامعات في مجال الُّلغة العربية.. وكان قد أبدى اهتماما ً كبيراً في البداية بالُّلغة اليمنية القديمة وبتلك الُّلغة التي كتبت بخط المسند ثم أبدع فيها وأصبح من كبار المتخصِّصين فيها..
وأضاف يوسف: (اتقان الُّلغة العربية الفصحى، والمعرفة اللصيقة والدقيقة بالَّلهجات اليمنية، واتقان علوم المسند -ليس فقط قراءة الحرف وانما الإلمام بالُّلغة وأسرارها، والإحاطة بمفرداتها وصرفها ونحوها) وهذه الملامح الثلاثة التي توفرت لأخي وصديقي العلامة مطهر بن علي الارياني أتاحت له أن يبدع أشياء كثيرة، ولا شك أنه أبدع في الشِّعر وأنا أعتبره من كبار شعراء اليمن ومن كبار شعراء العربية الفصحى، صحيح أنه مقلٌّ بشعره ولكنه شعرٌ “موَقَّصٌ” -كما نقول في لهجتنا اليمنية- أي أنه شِعْرٌ على مستوى رفيع من البلاغة والاتقان والموهبة، وهو كذلك في دراسته للنقوش اليمنية القديمة استطاع أن يعلمنا أشياء كبيرة وأن يبتدع طريقة جديدة في تعليم النقوش اليمنية القديمة ليس بالطريقة التي يتبعها المستشرقون والتي أنا شخصيا اعتمدت عليها وإنما له منهجٌ خاص في قراءة النقوش يجمع بين عمق فهمه للغة اليمنية القديمة وعلاقة ذلك بالُّلغة العربية الفصحى، وكذلك بالَّلهجات الدارجة واستطاع أن يكون شاعراً مبدعاً وأستطاع أن يؤلف في الَّلهجات، واخترع شئياً اسمه الالفاظ اليمنية الخاصة، أو المفردات اليمنية الخاصة، وكان لهذا الموضوع صدى حتى عند المستشرقين..
حارس الهويَّة
تسليط الضوء على قامة يمنية زاخرة العطاءات نادرة الوجود كالأستاذ مطهر بن علي الإرياني مهمة ضرورية، لما لذلك من تعميم للفائدة، وإنصافٍ يُحتِّمه الواجب.. هذا ما أشار إليه رئيس الهيئة العامة للكتاب الأستاذ عبدالباري طاهر في معرض حديثه لـ”الثورة” عن الارياني، مؤكداً أن الحديث عن مطهر الإرياني أشبه بالسباحة في محيط لأنك تتحدث عن الشاعر المبدع والعالم الآثاري، والمؤرخ اللامع، والفقيه اللغوي، والمختص المتميز في المسند الحِمْيَري والَّلهجات اليمنية ماضياً وحاضراً، وخبير الفلك ومواسم الزراعة، وجغرافية اليمن وتراثها وتاريخها وآدابها.، وغيرها من الـمَلَكات التي لا يتسع المجال للاسترسال فيها..
وأضاف طاهر : والـمُدْهِش في عبقرية هذا العَلَم الموسوعي، إنه عندما كتب الشِّعر الفصيح تبوأ الذروة، وعندما كتب القصيدة العامية والمغنّاة بلغ المنتهى، وعندما اتجه للإسهام في البحث التاريخي تجلى أكثر لغةً وبياناً ومعطىً معلوماتياً متقدماً، وبهذا فهو عالِمٌ متعدد المواهب، وقد تتوّج على هذا المستوى من العلم والثقافة والإبداع بحُلّةٍ من الخُلق والتواضع والدماثة، وتميَّز بالالتزام الفكري والسياسي والاجتماعي والوطني.. كما أنه يعتبر من أبرز رموز الحركة الوطنية على الصعيد السِّياسي، فهو من القيادات المؤسسة لحزب البعث، وأتذكر أنه استقال في منتصف الستينات ولكنه ظل على التزامه الوطني والقومي، معبراً عن هذا الالتزام من خلال تفرّغه للعلم والبحث والفكر ولما ما شأنه حماية الموروث وحراسة الهويَّة الوطنية، وعندما أذكر مطهر الإرياني يتبادر إلى ذهني تعبير للمتصوِّفة، وإخوان الصفا حول الشِّمول والموسوعية أو ما يصفونه بـ”الإنسان الكامل” وهو الذي تتوفر فيه صفاتٌ، نادراً ما تجتمع في إنسان، وهذه هي قيمة المصلحين وأصحاب الرسالة الكبيرة، وهي ما تجلَّت في شخص وعطاء وإنجاز مؤرِّخ اليمن الكبير مطهر بن علي الارياني الذي شقَّ طريقه وفرض وجوده في عقول وجدان أبناء شعبه وفي كل المجالات من خلال عبقريته وإبداعه العظيم..
أباً عالمـــاً
العلاَّمة والشَّاعر الكبير مطهر بن علي الارياني رغم عزلته مع العلم الذي نذَر معظم عمره له، إلاَّ أنه صوَّب جهوده في ما فاض من وقته الثمين في إعطاء الحنان والعطف ومشاعر الأبوة اللازمة لأطفاله الذين تربوا في جو أسريٍ معرفيٍ حفَرَ في وجدانهم حُبَّ العلم والتطلع ليغدوا على قدرٍ من الحضور المؤهَّل اليوم.. كما إن طبيعة عمله الفكري المعتمد على الصفاء الذهني لم تتأثَّر بالتزامات الحياة القاسية، وفي نفس الوقت لم يمنعه جوَّ البيت الطفولي – كزينة مغرية في الحياة بديات العمر الأسري- من الصرامة في تربية أبنائه على ما نشأ عليه، لكن صرامته استثنائية كونها نابعة من عقل حكيم يعي أن الصمت وسيلة للتعبير أيضا عن كثير من الأشياء فيكون الكلام بعد الصمت من ذهب.. اليوم يعيش مشغولاً بالعلم لكن لم يغفل عن العيش لحظات من السعادة والمرح مع أحفاده.. هذا ما ألمح إليه نجله أوس الذي صار مهندساً تقنياً استثنائياً بين أقرانه، مضيفاً فوق ذلك :لم أشعر أنا وإخواني بقيمة القراءة الإلزامية والاطلاع المعرفي الإلزامي إلاّ حين كبرنا، وتمردنا على أوامر الوالد-حفظه الله- في القراءة.. وأتذكر أننا في الصِّغَر وأثناء تواجدنا في سوريا كنا على قدر كبير من الالتزام بحكم الطفولة، فكان يلزمنا بالقراءة فنقرأ مجبرين رغم أنه لم يعودنا على الصراخ علينا أو الضرب بل كان الصمت المرافق له شيءٌ من العبوس يجعلنا في أجواء مخيفة، بل في رعب فلا نخالف أي أمر، أما إذا تكلم بحدة فكان ذلك بمثابة العقاب، وحتى اليوم لا زال يوجهنا بالقراءة والاستزادة من العلوم والمعرفة.. لكن كما قلت لك صرنا متمرِّدين فبمجرَّد ما يذهب لأبحاثه ونذهب لأعمالنا نتمرد تماماً)..
الثورة نت