منذ تأسيس الولايات المتحدة، تمتع زعماؤها بثقة الشعب الذي كان يتطلع على ما يحدث في واشنطن من خلال وسائل الإعلام التي تخضع لقوى ذات مصالح خاصة بها على غرار الشركات الضخمة التي تسيطر على السياسيين الأمريكيين من خلال الدعم المادي والإعلامي.
ومن حاول أن يخالف أو يتحدى تلك القوى، يتم سحقه باتهامات تتراوح من خيانة وطنية الى شذوذ جنسي ويُحرم من الدعم المادي ويخسر منصبه. كما جُندت هوليوود لبث صورة لامعة إيجابية لقيادات الولايات المتحدة وكأنهم كانوا أنبياء، ومن تجرأ على نشر رسالة مخالفة، اتهم بالعداء لأمريكا وبالولاء للشيوعية، كما حدث في الخمسينيات عندما قام عضو الكونغرس جوزيف مكارثي باتهام عدد من شخصيات هوليوودية يسارية بالتجسس للاتحاد السوفييتي.
لم يكن هناك سبب للأمريكيين بأن يشككوا بقياداتاهم لأنهم كانوا يتمتعون بالثراء والأمن. أمريكا هي أقوى دولة في العالم عسكريا واقتصاديا، مما عبأ قلوب الأمريكيين بشعور الوطنية المفرطة وأعمى أبصارهم عما كان يحدث من فساد في واشنطن باسمهم، وذلك بفضل الاعلام الأمريكي الذي دأب على التعتيم بدلا من نشر الاخبار والحقائق. ولكن احداِث 11 سبتمبر/أيلول، قلبت الامور على عقبها وأيقظت الأمريكيين من غفوتهم وجعلتهم يشككون بمصداقية إعلامهم وحكومتهم وحثهم للسعي الى مصادر معلومات واخبار اخرى من خارج الولايات المتحدة، مثل «بي بي سي» و»الجزيرة»، التي فتحت أعينهم على أمور غيرت نظرتهم تجاه قياداتهم جذريا. فلا يمكن الآن لوسائل الإعلام الأمريكية، التي كانت تحتكر الاخبار، أن تسدل ستارها على الفساد والجرائم التي ترتكبها حكومتهم، مثل خوض حروب كاذبة والغرق في ديون هائلة وسرقة أموال الدولة والتنصت على مكالمات المواطنين التلفونية ورسائلهم الإلكترونية.
فضائح واشنطن صارت نعمة لهوليوود التي انتهزت الفرصة لتحقيق الأرباح من اهتمام الشعب الأمريكي بالسياسيين وسارعت في صنع عدة مسلسلات تلفزيونية تسبر الواقع السياسي في عاصمة الولايات المتحدة مثل «الوطن»، «بيت من ورق»، «فضيحة»، «اللائحة السوداء»، «السيدة الوزيرة»، «رهائن»، «الأمريكيون»، «نائبة الرئيس» و«الفا هاوس».
بغض النظر عن مصداقيتها، معظم هذه المسلسلات هي درامية تحاول أن تجسد ما يحدث وراء كواليس السياسة الأمريكية بشكل جدي. ولكن هذا الاسبوع ينطلق مسلسل تلفزيوني كوميدي جديد من انتاج شركة HBO وهو «ذي برينك» الذي يعرض صورة ساخرة لسياسة أمريكا في الشرق الاوسط، فاضحة سذاجة وجهل الساسة الأمريكيين بما يحدث في العالم الذي يسيطرون عليه.
قصة «ذي برينك» تتمحور حول شخصية وزير الخارجية الأمريكي، وولتر لارسون (تيم روبينز)، الذي يحب مضاجعة النساء وشرب الكحول. وعندما يحدث انقلاب عسكري في باكستان بقيادة قائد جيشها، الذي يلقي خطابا يستنكر فيه قصف أمريكا لبلاده بطائرات بدون طيار ويهدد بضرب اسرائيل بصواريخ نووية، يجمع الرئيس الأمريكي وزراءه في جلسة طارئة من أجل مناقشة رد فعل حكومته، بينما تهدد إسرائيل بضرب باكستان.
وفي الجلسة يتشاجر وولتر، الذي يقترح إيجاد حل سلمي من خلال إشعال انقلاب داخلي في باكستان، مع وزير الدفاع، الذي يحث الرئيس بقصف قواعد باكستان النووية من أجل ارضاء اسرائيل.
وفي النهاية يعطي الرئيس الأوامر بقصف باكستان، ولكن في طريقهم إلى الهدف، يصاب الطيار، الذي يتاجر في المخدرات من أجل تمويل معيشة طفله الجديد، ومساعده بالهلوسة وذلك لأنهما كانا استهلكا خطأ نوعا من المخدرات بدلا من مهدئ الأعصاب ويقوما باسقاط طائرة بدون طيار هندية قبل رجوعهم بخفي حنين، مما يثير غضب الهند، التي تتهم باكستان بالعملية وتتوعد بالانتقام.
وفي باكستان، يرحب السفير الأمريكي، المسيحي المتطرف، بالأزمة مؤمنا أن اسرائيل سوف تنتصر لأن المسيح المنتظر سوف يظهر لنصرتها، ويمنع احد موظفيه، اليكس تالبوت، المدمن على الحشيش والذي يحلم بأن يصبح جيمس بوند، من التواصل مع واشنطن لتسريب المعلومات الحساسة التي حصل عليها في بيت زميله الباكستاني والتي تؤدي لاحقا لاختطافه على يد المخابرات الباكستانية التي تقوم بتعذيبه، مستخدمة وسائل تعذيب طبقتها المخابرات الأمريكية في «غوانتانامو بي».
«أنا أظن أن هذا تجسيد دقيق لما يحدث في السياسة الأمريكية،» يقول لي نجم المسلسل ومخرج الحلقة الثانية، تيم روبنز، عندما قابلته في فندق «فور سيزنس في لوس أنجليس. «في نهاية الأمر، رغم أن الناس في مراكز القوى يعرضون صورة دبلوماسية مؤدبة أمامنا، أنا متأكد بأنهم يتصرفون بشكل مختلف عندما تتوقف الكاميرات عن التصوير.»
روبينز (56 عاما)، الحاصل على جائزة الأوسكار عن دوره في فيلم «مستيك ريفير»، ليس غريبا عن السياسة الأمريكية، ففضلا عن إخراجه لأفلام تتناول قضايا سياسية واجتماعية مثل «بوب روبرتز» كان دائما فعالا على ساحة السياسة الأمريكية برفقة زوجته السابقة، النجمة الهوليوودية سوزان سوراندون. ففي عام 2000، شارك في حملة انتخابات مرشح الرئاسة الليبرالي رالف نادر، وفي 2008 دعم مرشح الرئاسة السيناتور جون ايدوارد. كما انه أُتهم بالخيانة وبإيذاء مصلحة الولايات المتحدة عندما استنكر حرب العراق عام 2003. وما زال يناضل من أجل عدل سياسي واجتماعي من خلال فعالياته الخيرية او صنع افلام توعي الأمريكيين. ولكن هل يمكن ان كوميديا ساخرة تأثر على الرأي العام الأمريكي التي يسيطر عليه الاعلام الأمريكي المضلل؟
«أنا لا أدري»، يعلق روبينز، الذي رُشح لجائزة أوسكار لأفضل مخرج عن فيلم «ديد مان ووكينغ» عام 1995. «يمكن أن تسلط الضوء على حقيقة نوع المخاطر التي لا ندري بها ولكن لست متأكدا أنها قد تغير شيئا. ولكن مهم أن السخرية تستقطب جمهورا كبيرا وهذا ما يحققه ذي برينك.»
«ذي برينك» استلهم من فيلم «ستانلي كوبريك» السياسي الساخر «دكتور سترينجلوف (1964)» الذي يكشف عن سذاجة وعدم مسؤولية السياسيين الذين يتجادلون مثل طلاب مدرسة مشاغبين، بينما كان العالم على حافة دمار نووي إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
وبعد مرور 50 عاما، لم يتغير كثيرا. فالسياسيون ما زالوا يتصرفون مثل الأطفال الجهلاء، مرتكبين اخطاء تؤدي الى دمار دول وخراب بيوت أهلها. ويبدو أن همّ السياسيين ليس حل مشاكل العالم وخدمة الناس الذين انتخبوهم وإنما خدمة مصالحهم الخاصة على حساب الأخرين. وهذا ما يحدث في الكونغرس الأمريكي الذي شُل بسبب الخلافات الدائمة بين الديمقراطيين والجمهوريين.
«أنا أشعر بأننا في مأزق لا مخرج منه وهو فريقان متحاربان»، يقول روبينز. «ولكن لا أظن أن هذا غير عادي وهذا سيحدث دائما. لا تنس أن التقدم يحدث بفضل الناس وليس بفضل أفكار السياسيين الذي لا ينتجون اي شيء. السياسيون دائما يتبعون الناس والرأي العام. لهذا أنا لا اهتم بالسياسيين. أنا اعرف انهم هناك لينسبوا لأنفسهم ما يطالب به ويحققه الناس.»
ما يميز «ذي برينك» عن غيره من المسلسلات التلفزيونية هو جرأته في كسر المحظورات في الإعلام الأمريكي وافلام هوليوود مثل طرح نفوذ إسرائيل في سياسة أمريكا الخارجية وتحكمها بها، اذ يكشف أن أولوية الحكومة الأمريكية هو إرضاء إسرائيل وليس خدمة مصلحة الولايات المتحدة وهو ما يغضب قائد الانقلاب الباكستاني عندما يخبره الرئيس الأمريكي في مكالمة هاتفية أن تهديد إسرائيل هو عمل غير قانوني وغير أخلاقي. «إسرئيل، إسرائيل، وجعت رأسي باسرائيلك. وماذا عن اخلاقية وقانونية ضرب بلادنا وقتل أبنائنا الأبرياء بدولاراتكم؟» يصرخ الجنرال الباكستاني ويغلق خط التلفون في وجهه. وعندما يهدد وولتر وزيرة الخارجية الاسرائيلة بوقف الدعم المادي التي تقدمه حكومته لاسرائيل اذا لم تصغ له، ترد عليه الأخيرة ساخرة: «المسيحيون المتطرفين من الجنوب في الكونغرس لن يسمحوا لك بفعل ذلك، لأن دعمهم لنا هو أمر من السماء وليس من حكومتك.»
طرح مثل هذه المواضيع الحساسة في أفلام درامية جدية ربما يكون مستحيلا، ولكن ما زالت هناك مخاطرة حتى في عرضها في الكوميديا، التي تمنح الفنان حرية تعبير لا يمكنه أن يحققها في الدراما.
ويعترف روبينز أن «ذي برينك» ربما يغضب المحافظين في أمريكا. «السخرية ليست مهذبة وفيها مخاطرة ازعاج أناس في مراكز قوى. ولكن بالتأكيد أنه كلما كانت هناك سياسة وفساد، فسوف يكون من يفضحهما من خلال السخرية. وأظن أنه من أجل صنع سخرية، عليك أن تعالج مواضيع جدية جدا، التي لا يمكنك أن تطرحها باقل جدية مما هي لكي تُشعر المشاهد بالامان وبالتالي تخسر تأثيرها. فلهذا مهم جدا ان تعرض سوداوية الواقع الذي تريد ان تتناوله»، يقول روبينز.
الحقيقة هي أن ما يكشفه «ذي برينك» من فساد ولا أخلاقيات وخرق قوانين دولية في سياسية الولايات المتحدة الأمريكية ليس جديدا على الجماهير غير الأمريكية. ولكنه سوف يذكر العالم مرة أخرى أن أمريكا هي قوة شر وليس قوة خير كما تدعي. «أنا أومن أن هناك أناسا عاقلين في أوروبا والعالم يدركون أن الشخصيات التي نطرحها هم أقلية ضئيلة في المجتمع الأمريكي وأن الشعب الأمريكي ليس بالضرورة مسؤولا عن العمليات السرية. أظن أن الناس يفهمون أن ما ترتكبه المخابرات الأمريكية حول العالم ليس إرادة الشعب الأمريكي. رغم كل ذلك بعض الناس ما زالوا يظنون أننا مسؤولون عن جرائم حكومتنا وهذا يؤسفني جدا»، يقول روبينز.