في مارس الماضي، أمام شعار أحمر كبير يرسم حروف (TED) بجوار بيانو كلاسيكي قديم على ذلك المسرح المتوسط الحجم، وعند انتهاء تصفيق الترحيب من الجمهور، وقف الرجل ذو النظارات الأنيقة المربعة وصحفي التحقيقات الأمريكي الشهير (تريفور آرونسون) مخبرًا الجمهور بإحدى أغرب الجمل التي من الممكن أن يسمعوها قائلًا إنه هناك منظمة مسئولة عن مؤامرات إرهابية على الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من تنظيم القاعدة، ومن حركة الشباب الإسلامية، ومن تنظيم الدولة الإسلامية المعروف باسم (داعش)، ثم زاد في الغرابة وأكمل بأنها مسئولة عن مؤامرات إرهابية أكثر من هذه التنظيمات مجتمعة، ثم فجر مفاجأته بأن المنظمة هي (المباحث الفيدرالية الأمريكية FBI)!
قبلها كنت على موقع الـFBI أتصفح قائمة الإرهابيين الأكثر طلبًا للجهاز، أسماء شهيرة – وربما عفى عليها الزمن- مثل (محمد علي حامدي) اللبناني الذي شارك في اختطاف طائرة الرحلة 847 الأمريكية المعروفة في عام 1985، والدكتور (رمضان عبد الله شلح) أحد مؤسسي حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية والأمين العام الحالي لها، و(عبد الله أحمد عبد الله) المصري المشارك في تنفيذ تفجيرات السفارة الأمريكية في دار السلام لعام 1998، بجانب كل الأسماء التي رأيتها، كانت هناك علامة استفهام نجح تريفور في أن يزرعها بقوة في حديثه على مسرح تيد، علامة استفهام يؤازرها ويلحق بها الكثير من القصص والحكايات المتعلقة بجملته نفسها عن صناعة الـFBI للإرهابيين.
لفهم أكثر وقبل صلب التقرير، فإن خلفية تاريخية لجهاز المباحث الفيدرالية الأمريكية تبدو مطلوبة وبشدة.
متى كانت البداية؟
في عام 1896 بدأ (المكتب الوطني لكشف الأنشطة الإجرامية) عمله مزودًا وكالات إنفاذ القانون على مستوى جميع الولايات الأمريكية بالمعلومات المطلوبة لتحديد المسئولين عن الجرائم المختلفة أو القبض عليهم في حال شهرتهم، لكن خمس سنوات من العمل لم تكن كافية لما حدث فيما بعد حيث تم اغتيال الرئيس الخامس والعشرين للولايات المتحدة (ويليام مكينلّي) على يد أحد الأناركيين فيما مثل صدمة للمجتمعين السياسي والأمني، دافع المكتب الوطني ممثلًا في وزارة العدل عن نفسه موضحًا أنه يمتلك آلافًا من السجلات للأناركيين بالفعل، لكن الرئيس التالي (ثيودور روزفلت) قرر أنه يحتاج لمزيد من القوة وإحكام القبضة عليهم، لتحقيق ذلك كلف المدعي العام الأمريكي حينها (تشارلز بونابرت) بإنشاء جهاز تحقيقات مستقل يرفع تقاريره إلى بونابرت فقط، وبعد شد وجذب مع الكونجرس ومخاوفه من تحول الجهاز لشرطة سرية أمريكية ثبت روزفلت الخدمة التي تحولت إلى (هيئة التحقيقات) في 1908، استمرت الهيئة في عملها حتى عام 1935 حيث استقلت كجهاز منفصل ثم أطلق عليها (المباحث الفيدرالية الأمريكية)، اللقب الملتصق بها حتى اليوم.
جهاز الـFBI هو بمثابة المخابرات الأمريكية الداخلية المسئولة عن مكافحة الأنشطة الإرهابية والجرائم شديدة التطور والتعقيد داخل الولايات المتحدة (يحظر القانون الأمريكي المخابرات المركزية CIA من العمل بداخل البلاد)، وبحسب اللائحة المعلنة فإن مهماته تتلخص في مكافحة الأنشطة الإرهابية وجرائم التقنية العالية والفساد الداخلي وحماية الجبهة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية من عمليات التجسس والاختراق وتوغل المنظمات العابرة للقارات، ويتخصص في قضايا الاحتيال المالي وغسيل الأموال والفساد التي يقوم بها فئة (ذوي الياقات البيضاء) أو نخبة المجتمع الأمريكي في كل المجالات.
أقوى من الرئيس
ما الذي يطلبه أي إنسان أكثر من امتلاك مفاتيح واشنطن؟!، أن يجلس متربعًا على عرش القوة مكونًا جيشه الخاص من الرجال المدينين بالولاء له ولقيادته للجهاز بلا أي نظر لتبعيتهم لوزارة أو رئاسة، أن يعامله القاطنون في البيت الأبيض وعلى رأسهم الجالس في قلب المكتب البيضاوي باحترام وربما خشية في بعض الأحيان، وأن يلعب البوكر – بتعبير جون بيري- على مدار سبعة وثلاثين عامًا مع ثمانية رؤساء ومئات من السياسيين وأعضاء الكونجرس ونخبة صحفيي الولايات المتحدة وبعض قادة المخابرات المركزية الأمريكية، بوكر امتلاك النفوذ الأعلى، ومع كل هذه المقامرة مرتفعة المخاطر ينجح بنسبة مبهرة في الحفاظ على قوته ونفوذه فلا يرحل أو يقال من منصبه أو يتم تصفيته حتى بتحقيقات واستجوابات إلى وفاته الطبيعية تمامًا، مرة أخرى، ما الذي يطلبه أي إنسان أكثر من ذلك؟!
يمثل إدجار هوفر أحد أهم الأيقونات والركائز التاريخية للشبكة الأمنية الرسمية في الولايات المتحدة، وصاحب إحدى أطول فترات تولي منصب رفيع المستوى في دولة تتميز بديموقراطيتها ومسئوليها ذوي تاريخ الصلاحية القصير، تولى هوفر المنصب في عام 1935 كأول مدير لمكتب المباحث الفيدرالية الناشئ بعد أحد عشر عامًا كمدير تنفيذي سادس لمكتب التحقيقات القديم، واستمر كمدير للـFBI لمدة سبعة وثلاثين عامًا حتى وفاته في عام 1972 وكان ثابتًا أثناء تولي ثمانية رؤساء أمريكيين المنصب، قبلها بثمانية أعوام بلغ هوفر سن السبعين وهو سن التقاعد الإلزامي في الولايات المتحدة، قانون يطبق على الجميع، حينها تجاوز الرئيس الأمريكي ليندون جونسون – القادم بعد اغتيال كينيدي- القانون وأبقى هوفر في منصبه كمدير للمباحث الفيدرالية (لفترة غير محددة من الزمن) وهي عبارة نصية في القرار الرئاسي!
لفهم قوة هوفر يمكننا أن ننطلق من معارضة الرئيسين (جون كينيدي) و(هاري ترومان) له ورغبتهما في إقالته لكنهما لم يستطيعا لأن التكلفة السياسية لإقالة هوفر ستكون كبيرة للغاية ولن تتحملها أي إدارة أمريكية، هذه التكلفة أتت من برنامج سري قاده هوفر منذ منتصف الخمسينات يدعى (كوينتلبرو)، حينها كانت المحكمة العليا الأمريكية تضيق الخناق باستمرار بقوانين تحد من وسائل وصلاحيات وزارة العدل والأجهزة الرسمية التابعة لها – من ضمنها المباحث الفيدرالية- لاستجواب ومراقبة الأشخاص بناءً على توجهاتهم السياسية، ما فعله هوفر حينها هو تأسيس كوينتلبرو لاستهداف ومراقبة الأشخاص المشكوك في أمرهم وجمع ملفات لفضائحهم وزلاتهم كأوراق ضغط، بعدها توسع البرنامج ليشمل السياسيين من كل الأطياف بشكل عام ما أدى إلى جعل جهاز المباحث الفيدرالية قوة قاهرة متحكمة في السياسات والكونجرس في هذه الفترة.
صناعة الإرهاب!
{لقد أمضيت سنوات مدققًا في ملفات قضايا الإرهاب في الولايات المتحدة الأمريكية، ووصلت لاستنتاج قاطع بأن المباحث الفيدرالية أفضل بكثير في صناعتها للإرهابيين منها في الإمساك بهم}.
(تريفور أرونسون/ مسرح TED، نيويورك/ مارس من العام الحالي)
في أواخر 2011 ألقت المباحث الفيدرالية القبض على (أبي خالد عبد اللطيف) و (والي مجاهد) بتهمة التخطيط لهجوم مسلح على قاعدة عسكرية خارج سياتل (واشنطن)، الاثنان لهما تاريخ طبي معروف من الاضطراب العقلي، أبو خالد بتاريخ من محاولات الانتحار وإدمان استنشاق المواد البترولية، ووالي المصاب باضطراب فصامي وهو مرض شهير من أهم أعراضه الأساسية وجود هلوسة وأوهام متخيلة بشكل كامل في عقل المريض فقط يتحدث ويتصرف على أساسها وقضى والي اثنتي عشرة دورة علاجية نفسية منه، المثير للتأمل أن المعلومة وعملية إلقاء القبض عليهما كانا عن طريق مخبر للمكتب يدعي (روبرت تشايلدز) الذي تقاضي 90 ألف دولار مقابل نجاح القبض على الاثنين، روبرت مدان سابق باغتصاب الأطفال!
![](http://samate.wpengine.netdna-cdn.com/wp-content/uploads/062015_0938_2.jpg)