يعد الخليج أحد المصادر الرئيسية لأسواق الطاقة العالمية، وبالتالي يعتبر أمن الخليج من الضرورات الاستراتيجية للقوى الأوروبية (المانيا، المملكة المتحدة، فرنسا). فالطفرة الاقتصادية للخليج جعلت منه محط جذب أنظار الشركات الأوروبية، إضافة إلى ذلك التحديات الأمنية التي تعد قاسما مشتركا للقوى الأوروبية في المنطقة، خصوصاً الملف النووي الإيراني وتوازن القوى الإقليمية في المنطقة وهشاشة الأمن في اليمن، كل هذه القضايا تعد من اولويات القوى الأوروبية، وبالتالي بات من الضرورة تبين اهم المشتركات الاستراتيجية التي يمكن القول إنها تجتذب اولويات القوى الأوروبية في هذه المنطقة وهي كالآتي:
الأهمية الجيوستراتيجية للخليج:
يعد الخليج العربي أحد اهم طرق المواصلات والتبادل التجاري بين الشرق والغرب، وهو الجسر الموصل بين قارات العالم الرئيسة، وقد كان لهذا الموقع الاستراتيجي اثره الكبير في تطوره التاريخي، ما ساعد على نمو الحضارات الانسانية فيه وازدهارها، ونتيجة لهذا ولقربه من مناطق الصراع السياسي القديم والحديث، آسيا وافريقيا واوروبا، جعله محط انظار كل دولة تهدف إلى فرض سيطرتها على تلك الاجزاء، فاصبح الخليج في مقدمة اهداف واهتمامات القوى العالمية والاقليمية، قديماً وحديثاً، وهذا ما عبر عنه احد علماء الاستراتيجية الانكليز ريمون اوش، عندما وصف منطقة الخليج العربي بانها «شريان الحياة الرئيس بالنسبة لنا وسيظل الخليج يسيطر على استراتيجيتنا الدولية سنين طويلة». ساعدت تلك الخصائص الجغرافية على اضفاء سمات الانفتاح والازدهار الحضاري على مجتمعات المناطق الساحلية في الخليج العربي، نتيجة الاتصال والاحتكاك مع المجتمعات والحضارات الاخرى، فانعكس بشكل واضح على التقدم والنهوض الثقافي والحضاري لبعض اقطار الخليج العربي، دون غيرها من دول الخليج.
النفط والغاز:
تعد منطقة الخليج العربي من أهم أقاليم العالم على الإطلاق، في ما يتعلق بموارد الطاقة، خاصة النفط الخام والغاز الطبيعي، حيث يحتضن باطن الأرض في الخليج أكثر من 700 مليار برميل من النفط الخام، كاحتياطيات مؤكدة من إجمالي الاحتياطي، وتؤكد الدراسات المستقبلية أن المستقبل النفطي لا يزال مزدهرا، وسوف يبقى في صدارة الطاقة واستخداماتها الصناعية والتجارية طوال القرن الواحد والعشرين، ويدرك الأوروبيون أهمية البترول لاستمرار عمل النظام الاقتصادي في دول الاتحاد، إذ يشكل 70? من واردات الاتحاد الأوروبي من دول مجلس التعاون الخليجي، كما يعد هذا القطاع مجالا خصبا لاستثمار الشركات الأوروبية، بل يفرض الاتحاد الأوروبي ضرائب على النفط المستورد تصل إلى 7.63? من سعر برميل النفط المكرر، مما يزيد من المكاسب الأوروبية من استيراد النفط، وتنتج دول مجلس التعاون الخليجي 13 مليون برميل نفط يوميا، إضافة لإنتاجها واحتياطيها من الغاز الطبيعي، وتشير الدراسات إلى أن استهلاك الاتحاد الأوروبي من النفط في ازدياد مستمر.
الدوافع الاقتصادية:
تتطلع القوى الأوروبية إلى منطقة الخليج الغنية بالثروات الطبيعية والعملات النقدية، فقد تبوأت المنطقة مكانة اقتصادية عالمية، من حيث حجم الاستثمارات وتداول العملات واسواق المال، إذ تؤمّن دول الخليج ما نسبته 25? من احتياجات أوروبا من مصادر الطاقة، علماً بأن احتياطات دول الخليج مضافة إلى ما يملكه العراق وإيران يمثل نسبة 45? من الاحتياطات العالمية من النفط، وبالتالي تدرك القوى الأوروبية مدى أهمية القطاع النفطي الخليجي، الذي يشكل فرصاً سانحة ومجالاً خصباً للشركات الأوروبية، التي تهيمن على مختلف العمليات، سواء الاكتشافات والتنقيب، أو الإنتاج أو التصدير والتسويق، كما أن مصادر الطاقة تشكل أهمية كبرى للنمو الاقتصادي الذي تحققه دول الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن أهمية الأسواق الخليجية في تصريف منتجاتها من السلع والبضائع الأوروبية، التي تجد إقبالاً كبيراً من قبل شركات وسكان دول الخليج.
أمن الخليج:
تشكل مشكلة امن الخليج هاجسا كبيرا لدى القوى الأوروبية، على اعتبار أن المنطقة تعاني من ارهاصات أمنية وتخلخل في ميزان القوى، نتيجة احتلال العراق وخروجه من منظومة القوى الاقليمية، الذي انعكس سلباً على أمن الخليج والشرق الاوسط، وبالتالي يمكن الجزم بعدم وجود الجاهزية الأمنية الخليجية، لغياب النظرية الأمنية الخليجية الواضحة والموحدة، ذات المحاور المترابطة التي تشكّل كُلاً متكاملاً للاستجابة لأي انهيار مفاجئ في الجوار الإقليمي، فالاتفاقية الأمنية الخليجية، واتفاقية الدفاع الخليجي المشترك فيها من الرمزية الكثير، حيث أراد لها البعض أن تكون قوات درع الجزيرة نفسها، بعد أن سلبتها روحها الاتفاقيات الأمنية المنفردة التي وقّعتها دول المجلس مع القوى العظمى كلا على حدة، بل أن الانهيارات الحالية تبدو وقد وضعت دول الخليج بين فكي كماشة التهديدات الإيرانية من الشرق والانهيار الامني في اليمن في الجنوب، فمواقف القوى الأوروبية حيال هذه التهديدات يتمحور من خلال موقف منظمة الأمن الأطلسية، فبعض دول الخليج لها تنسيق امني مع حلف الشمال الاطلسي، وهو بدوره يشكل ردعاً قويا في وجه أي تهديد داخلي أو خارجي. وتتمثل مصادر التهديد للخليج في أربعة تهديدات رئيسية:
أ ـ الدول المتطلعة إلى السيطرة: ايران واسرائيل ولكل دولة من هاتين الدولتين تاريخ وارتباطات بالأوضاع الاقليمية او الدولية، مع عدم اغفالنا حقيقة اختلاف ووضع كل دولة منهما، أو حجم تهديدها للأمن العربي أو الأمن الخليجي.
ب ـ الهجرة والعمالة الأجنبية ويؤثر ذلك في بنية المجتمع الخليجي وهويته الوطنية وثقافته وتوجهاته السياسية، ومن ثم استقراره السياسي والاجتماعي.
ج ـ التوترات الداخلية المتصلة بسعي بعض القوى للتغيير السياسي وتطوير النظم السياسية في المنطقة.
د ـ الوجود العسكري الأجنبي في منطقة الخليج.
مزاحمة الولايات المتحدة والقوى العالمية:
بعد انهيار القوى الأوروبية (المانيا فرنسا بريطانيا) نتيجة الحرب العالمية الثانية، التي أدت إلى صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى في النظام الدولي، ما أدى إلى تراجع وجود القوى الأوروبية في العالم واضمحلال مكانتها الدولية، ونتيجة لهذه المعطيات ادركت القوى الأوروبية ضرورة التحرك من اجل الرجوع إلى مكانتها الدولية السابقة، وبالتالي كان احد مظاهر التحركات الأوروبية هو الرجوع الاستراتيجي إلى المناطقة الجيوستراتيجية كشرق آسيا وأوراسيا والشرق الاوسط، وبطبيعة الحال تحتل منطقة الخليج اهمية كبيرة للقوى العالمية والاقليمية فكانت انظار القوى الأوروبية تنصب على الوجود السياسي والاقتصادي والعسكري، بشكل غير مباشر من اجل استرداد المكانة السابقة والضلوع بدور استراتيجي مهم وفعال في القضايا السخانة التي تعصف بالمنطقة.
استرداد التوازن الإقليمي في المنطقة:
بعد احتلال العراق عام 2003 من قبل الولايات المتحدة الامريكية، اصبح هناك خلل في ميزان القوى الاقليمي، حيث كان العراق بمثابة القوة الرادعة لطموحات ايران الإقليمية في الخليج، ونتيجة الفراغ الاستراتيجي الذي تركه العراق، اصبحت دول الخليج (العربي) تتجه نحو زيادة الانفاق العسكري ورفع مستوى التسلح، فضلاً عن تنسيقات امنية مع دول خارج المنطقة، من خلال التعاون العسكري المتمثل في حلف الناتو، الذي تشكل القوى الأوروبية العماد الرئيسي فيه، في إطار مبادرة اسطنبول للتعاون (ICI) المتفق عليها في قمة اسطنبول عام 2004، فالهدف الأساسي للمبادرة هو تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة، وتعزيز التوازن الاقليمي المنهار نتيجة احتلال العراق، من خلال تعزيز نشاط الناتو التعاوني مع الدول الخليجية (العربية) في مجال الأمن، حيث ساهم حلف شمال الاطلسي في تطوير قدرات قوات البلدان المعنية في التعامل مع التهديدات الامنية، المتمثلة في منع انتشار أسلحة الدمار الشامل والاتجار غير المشروع بالأسلحة، فضلا عن المساهمة في عمليات السلام التي يقودها حلف الاطلسي.
صناعة تهديد أمني افتراضي لأوروبا:
تعمد القوى الأوروبية إلى تبني استراتيجية صناعة العدو من اجل تسويق نفسها كراع للسلام والاستقرار والديمقراطية، فمن خلال استقرار سياسات القوى الأوروبية في الخليج، نجد انها تعمد إلى تفخيم الخطر الايراني في المنطقة، فالتدخل الاوروبي في الازمة السورية ينصب تحت ذريعة محاربة الاسد ومنع التطرف.
التراجع النسبي لدور الولايات المتحدة
يشكل التراجع الامريكي في النظام الدولي سببا رئيسيا لتطلعات القوى الأوروبية نحو منطقة الخليج، فهناك مؤشرات واضحة حول تراجع الاستراتيجية الأمريكية في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط، خصوصاً بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي باراك اوباما عام 2009 عن انسحاب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، وإطلاق استراتيجية إعادة التوازن في آسيا والمحيط الهادئ. وتتضح الصورة أكثر منذ اندلاع الربيع العربي عام 2011، وقيادة الولايات المتحدة لسلسلة سلوكية جديدة خلف الستار، خاصة الإجراءات الجديدة التي اتخذتها تجاه الأزمة السورية والقضية النووية الإيرانية عام 2013، مما يثبت دخول منطقة الخليج والشرق الأوسط عصر ما بعد الولايات المتحدة، التي أعطت الفرصة للقوى الأوروبية للوجود بقوة وثقل كبيرين في القضايا الاقليمية الحساسة. وبالتالي فإن منطقة الخليج تشكل اهمية جيوستراتيجية للقوى الاوروبية (المانيا، المملكة المتحدة وفرنسا)، نظراً لما تمتلكه من مخزون استراتيجي من الطاقة (النفط والغاز)، كما تعد هذه المنطقة ممرا حيويا يربط بين اوروبا واسيا وافريقيا، كما تمتلك ممرات مائية استراتيجية ومخزون طاقة كبيرا فتتزاحم القوى العالمية على هذه المنطقة لتجد لها موطئ قدم تستطيع من خلاله النفاذ والسيطرة على بعض مميزات هذه المنطقة، من أجل اشباع حاجاتها الداخلية ومنافسة القوى الاخرى على الزعامة والريادة العالمية، فالمنطقة اليوم ساحة هشة لتصفية الحسابات بين القوى العالمية المتنافسة، بسبب التناقضات الذي يشهدها النظام الدولي نتيجة التراجع النسبي لدور الولايات المتحدة الامريكية في العالم وظهور بعض القوى الصاعدة، التي تحاول أن تنافس الولايات المتحدة على الهرمية الدولية، ما انعكس بشكل سلبي على أمن واستقرار هذه المنطقة.
/نقلا عن القدس العربي/